الکمال الانسانی و التقرب الی الله تعالی فی القرآن الکریم

پدیدآورمحمدمهدی الأصفی

نشریهالفکر الاسلامی

شماره نشریه11

تاریخ انتشار1389/12/07

منبع مقاله

share 1969 بازدید
الکمال الانسانی و التقرب الی الله تعالی فی القرآن الکریم

محمد مهدی الآصفی

« والسابقون السابقون * اُولئک المقربون * فی جنات النعیم * ... فأمّا ان کان من المقرّبین * فروح وریحان وجنّة نعیم »(1) .
إنّ روح الصلاة وجوهرها هو حضور القلب ، واذا فقد الانسان هذه الحالة فی الصلاة فقد روح الصلاة وجوهرها ، ولا یبقی له من الصلاة غیر شکلها الخارجی .
وحضور القلب فی الصلاة هو الذی یکسب المصلّی حالة التقرّب الی اللّه‏ ، وعلی قدر هذا الحضور یتقرب الانسان فی صلاته الی اللّه‏ تعالی .

القرب والبعد من اللّه‏ تعالی :

التقرب الی اللّه‏ ، لیس من قبیل القرب المکانی أو القرب الزمانی ، فإنّ اللّه‏ تعالی یحیط بالمکان والزمان ، ولا یحویه مکان ولا زمان حتی یمکن ان یتقرب الانسان منه علی فاصل مکانی أو زمانی خاص ، وانّما المقصود بالقرب مقولة اُخری من ( القرب ) وهی ( القرب المعنوی ) .
فإنّ فی القرب المکانی أو الزمانی ـ دائما ـ تقارنا بین النقطتین المتقاربتین ، فإذا کان ( أ ) قریبا من ( ب ) کان ( ب ) کذلک قریبا من ( أ ) ، ومن غیر الممکن أن یکون ( أ ) قریبا من ( ب ) و( ب ) بعیدا عن ( أ ) . وهذا التقارب یجری فی القرب المکانی والزمانی علی نحو سواء .
وأمّا فی القرب المعنوی فان الأمر یختلف ، فقد یکون أمر قریبا من أمر آخر ، والآخر بعیدا عنه ، ولیس بالضرورة ان یکون بینهما تقارن ؛ وقرب الانسان من اللّه‏ وبعده عنه تعالی من هذا القبیل ، فإن اللّه‏ قریب من عباده من دون شک ، ولکن العبد قد یکون بعیدا عن اللّه‏ ؛ یقول تعالی : « ... وهو معکم این ما کنتم ... »(1) .
ویقول تعالی : « ... ونحن أقرب الیه من حبل الورید »(2) .
ویقول تعالی : « ... واعلموا ان اللّه‏ یحول بین المرء وقلبه ، وانه الیه تحشرون »(3) . ومع ذلک فقد یکون الانسان بعیدا عن اللّه‏ .
وفیما یأتی اذکر بعض الامثلة علی هذا الاختلاف فی القرب والبعد بین اللّه‏ تعالی وعباده .
قد یکون القرب بمعنی العلم والمعرفة والاحاطة ؛ والبعد بمعنی الجهالة ... واللّه‏ تعالی قریب من عباده ، عالم بهم ، مطلع علی سرائرهم ، محیط بهم ، والعبد بعید عن اللّه‏ غیر عارف به .
وقد یکون القرب بمعنی الذکر ؛ والبعد بمعنی الغفلة أو النسیان ؛ واللّه‏ تعالی ذاکرٌ لعباده ، بینما عباده ینسونه ولا یذکرونه .
وقد یکون القرب بمعنی الحب والرأفة والشفقة ، فنجد اللّه‏ تعالی قریبا یحبّهم ویرأف بهم ،ویشفق علیهم ، بینما عباده یعرضون عنه وینأون ویصدّون عن ذکره ، واللّه‏ تعالی قریب من عباده لا یحجبه عنهم شیء : « ... ونحن أقرب الیه من حبل الورید » بینما تحجبنا نحن السیئات والذنوب عن اللّه‏ ، وتبعدنا عنه تبارک وتعالی .
اذن القرب والبعد من اللّه‏ تعالی من مقولة اُخری غیر القرب والبعد ( الزمکانی ) فی مساحة الزمان والمکان .

قیمة التقرب الی اللّه‏ فی حیاة الانسان :

التقرب الی اللّه‏ تعالی غایة وقوام کل عبادة وعمل فی الاسلام ومن دونه لا عبادة هناک ، بل هو الغایة من خلق الانسان ، فانما خلق اللّه‏ تعالی الناس لیعبدوه : « وما خلقت الجن والانس إلاّ لیعبدون »(1) .
وهو روح هذا الدین وثمرة حیاة الانسان الذی یتکامل به فی حرکته التکاملیة الصاعدة الی اللّه‏ ؛ فان قیمة الانسان وعمله فی مقدار قربه من اللّه‏ .
ان ( الاخلاص ) و( الریاء ) لا یمسان مادة العمل ، ومادة العمل سواء فی الحالتین ، ولکن الاخلاص یصعِّد العمل الی اللّه‏ . فإذا أراد الانسان بنفس العمل التظاهر للناس ( والریاء ) ، ولم یقصد به وجه اللّه‏ ، یبقی العمل حیث هو ، ولا یصعد الی اللّه‏ أبدا ، بل یهبط العمل بصاحبه الی الحضیض ؛ فإن الریاء نحو من انحاء الشرک باللّه‏ ؛ قال تعالی : « ... إن الشرک لظلم عظیم »(2) . فالشرک من أخطر أنواع السقوط فی حیاة الانسان .

أنحاء القرب :

للانسان مِرقاتان وطریقان فی التقرب اللّه‏ تعالی :
أحدهما : هو القرب بالصفات ( مرقاة الصفات ) ، ونرید به سعی الانسان الی اکتساب صفات الجمال الإلهیة بقدر ما یتسع لذلک وعاء نفسه ، وکلما اکتسب الانسان شیئا أکثر من صفات الجمال الإلهیة حقق قربا اکثر الی اللّه‏ .
ویختلف الناس فی القرب والبعد من اللّه‏ بقدر ما یکتسبون من صفات اللّه‏ الجمالیة ، فمثلاً ان اللّه‏ کریم ، فاذا استطاع الانسان ان یتخلص من حالة الشحّ والبخل فی نفسه ، ویکتسب هذه الصفة الالهیة من صفات الجمال کان أقرب الی اللّه‏ تعالی من البخیل الذی تتمکن من نفسه حالة الشح والبخل .
وتبقی بعد ذلک الفاصلة اللامتناهیة بین الکرم فی الانسان ( الممکن ) والکرم عند اللّه‏ ( الواجب ) ، فإن الکرم فی الحالة الاولی محدود وممکن ومخلوق ، والکرم فی الحالة الثانیة مطلق وواجب ، وکذلک العلم والعفو والعدل ، وهذا هو معنی القرب بالصفات علی نحو الاجمال.
والآخر : القرب بالذکر ( مرقاة الذکر ) وهو انفتاح الانسان علی اللّه‏ تعالی وارتباطه وتعلقه به ، بعد الایمان بالبارئ ومعرفته اللذین یُعدان اساس کل ارتباط به وتقرب الیه عزّ وجل .
اِنّ فی کل ذکرٍ للّه‏ انشدادا وارتباطا وتعلقا به تعالی ، کما أنّ فی کل علاقة وارتباط باللّه‏ تعالی ذکرا له ، وهما معنیان متلازمان ان لم یکونا مترادفین ، وکلما یکثر ذکر الانسان للّه‏ ، ویرسخ الذکر فی قلبه یزداد انشدادا به ، وانفتاحا علیه ، والانشداد والانفتاح والتعلق من أوضح معانی ( القرب ) ؛ قال تعالی : « فاذکرونی اذکرکم ... »(1) .
والاعتصام باللّه‏ نحو من العلاقة والارتباط باللّه‏ والقرب ؛ قال تعالی : « فأما الذین آمنوا باللّه‏ واعتصموا به فسیدخلهم فی رحمة منه ... »(2) .
والاستغفار نحو من العلاقة والارتباط باللّه‏ والقرب الیه : « ... واستغفروا اللّه‏ ان اللّه‏ غفور رحیم »(1) .
وخشیة اللّه‏ نحو من العلاقة باللّه‏ والقرب الیه : « ... فلا تخشوهم واخشونی ... »(2) .
وتقوی اللّه‏ نحو من العلاقة باللّه‏ والتقرب الیه : « ... اتق اللّه‏ ولا تطع الکافرین ... »(3) .
والحب نحو من الذکر ، یتضمن انشدادا الی اللّه‏ وانفتاحا علیه ، وهما بمعنی القرب ، والرجاء والخوف ، والدعاء والتضرع والخشوع و ... کل منها علاقة وارتباط باللّه‏ یفتح بابا جدیدا علی العبد للتقرب الیه تعالی .

طیف العلاقة باللّه‏ :

العلاقة باللّه‏ تعالی طیف متعدد الألوان ، منها الایمان والمعرفة والاعتصام به والولایة والأمل والرجاء والخوف والخشیة ، والخشوع والخضوع وحسن الظن باللّه‏ و ... مما یعتبر طیفا متناسقا للعلاقة والارتباط به سبحانه ویفتح للعبد علی اللّه‏ بابا ویقربه الیه تعالی درجة.
لقد حثّ الاسلام علی توجیه الانسان للعروج الی اللّه‏ تعالی من خلال ذینک الطریقین اللذین مرّ ذکرهما اجمالاً ، والیک شرحهما مستندا الی نصوص القرآن والسنة .

مِرقاة الصفات :

صفات الجمال والجلال :

للّه‏ تعالی نوعان من الصفات هما صفات الجمال والجلال . صفات الجمال : هی الصفات الثبوتیة التی تتصف بها الذات الإلهیة المقدسة مثل العلم والعدل ، والرحمة ، والکرم ، واللطف والقدرة . وصفات الجلال هی الصفات السلبیة والتنزیهیة للذات الإلهیة ، مثل تنزیه اللّه‏ تعالی عن الشریک وتنزیهه عن الحاجة والضعف والفقر .
والنحو الثانی من الصفات وهو صفات الجلال ویخص ذات اللّه‏ تعالی وحده ، ولا یشارکه فیه شیء من خلقه ، ولا شأن لخلقه فی شیء منه .
أما النحو الأوّل وهو صفات الجمال فإنّ اللّه‏ تعالی قد وهب عباده الکثیر منها ؛ فرزقهم العلم والحلم والقوة والعدل والعفو واللطف والرحمة والحکمة والکرم .
إلاّ أنّ هذه الصفات فی الذات الإلهیة مطلقة وغیر محدودة وواجبة ، لا یمکن ان تنعدم أو تنقص أو تتغیّر او تتحدد ، وفی الانسان محدودة وممکنة ، یمکن ان توجد ، ویمکن الاّ توجد ، ویمکن ان تنعدم ، ویمکن ان تکثر أو تقل .

القرب بالصفات :

واکتساب هذه الطائفة من الصفات والتحلی بها یقرّب الانسان الی اللّه‏ تعالی ، وکلما یزداد حظ الانسان من هذه الصفات الجمالیة یزداد حظه من القرب الی اللّه‏ تعالی .
إنّ مسألة القرب والبعد لیست مسألة ( زمانیة أو مکانیة ) بالتأکید ، ولا علاقة لها بالزمان والمکان ... ولا بُدّ من افتراض معنی آخر للقرب والبعد غیر الزمان والمکان .
ولا شکّ ان التقارب بمعنی السنخیة والتشابه فی الصفات بین العبد وربّه هو من أصدق وأوضح مصادیق القرب ، کما أنّ التخالف والتضاد فی الصفات من ابرز مصادیق البعد ، وهذه حقیقة وبدیهیة لا یمکن التشکیک فیها ، فإن العالم قریب من العالم والجاهل بعید عنه ، والشجاع قریب من الشجاع والجبان بعید عنه ، والکریم قریب من الکریم والبخیل بعید عنه.
والناس یختلفون فی درجات القرب من اللّه‏ تعالی علی قدر اختلاف حظوظهم من صفات اللّه‏ الجمالیة . وامارة ذلک ان الانسان کلما یزداد حظه من صفات اللّه‏ الجمالیة یزداد کمالاً ونضجا فالکمال والنضج فی الانسان من ثمرات القرب الی اللّه‏ تعالی ونتائجه .
وکلما یزداد حظ الانسان من هذه الصفات یزداد حبا للّه‏ وذکرا وخشوعا له تعالی وانفتاحا علیه ، وهو من ثمرات القرب الی اللّه‏ تعالی وفی نفس الوقت من اسباب القرب ومفاتحه .
کیف یرتقی الانسان بهذه المِرقاة الی اللّه‏ عزّوجل ؟
وکیف یحقق هذا النحو من القرب الیه تعالی ؟
وما هی مفاتیح هذا القرب ؟
هذا ما نحاول ان نتحدث عنه ان شاء اللّه‏ .

حرکة الانسان التکاملیة القهریة :

قانون التکامل قانون عام فی الکون لا یشذ عنه شیء ، وخلاصة هذا القانون : أنّ کلّ مخلوق ینطوی علی درجات من الکمال غیر حاصلة بالفعل ، وقد جرت سنة اللّه‏ تعالی فی الکون علی ان هذه المراحل من الکمال تبرز وتظهر بالتدریج ، وبهذه الحرکة یتحول الکائن من القوة الی الفعل ؛ فإن الکمالات التی یستبطنها الکائن هی کمالات موجودة بالقوة غیر حاصلة بالفعل . ونقصد من کلمة الموجودة بالقوة : هو استعداد الکائن لهذه الکمالات دون الوجود الفعلی . وحرکة الکائن هی التحول التدریجی من القوة الی الفعل ، بمعنی ان الکفاءات والامکانات المخبوءة بالقوة والاستعداد فی الکائن تتحول بالتدریج من القوة الی الفعل ، وتبرز وتظهر بصورة تدریجیة حتی یکتمل نضجه ویأخذ حظه الذی آتاه اللّه‏ تعالی من الکمال .
إنّ نواة التمرة ـ مثلاً ـ تنطوی علی استعداد کامن لتکوین نخلة فارعة مثمرة ، وهذا الاستعداد یبرز ویظهر للوجود ویتحول الی حقیقة فعلیته بالتدریج ضمن حرکة تکاملیة طویلة وشاقة لهذه النواة .
وان الخلیة التناسلیة الواحدة ( التی تترکب من نواة الحیوان المنوی للرجل ونواة البویضة للانثی ) تستبطن بالقوة والاستعداد کل المواهب والکفاءات والقدرات والخصائص التی یحملها الفرد ، هذه الکفاءات والخصائص والقدرات موجودة فیها وقائمة بها ولکن بالقوة وتظهر بالتدریج وتتحول من القوة الی الفعل فی الکون .

حرکة الانسان التکاملیة الارادیة :

وهذه الحرکة التکاملیة عامة وشاملة ، والانسان ـ کأی کائن آخر ـ یخضع لهذه الحرکة التکاملیة الجوهریة ، والی جنب هذه الحرکة حرکتان اُخریان ارادیتان للانسان ؛ احداهما : باتجاه الکمال والعروج الی اللّه‏ تعالی ، والاُخری : باتجاه الخسران والسقوط .
أما الحرکة التکاملیة الصاعدة ، فهی التی تؤهل الانسان لخلافة اللّه‏ تعالی علی وجه الارض : « وإذ قال ربّک للملائکة إنّی جاعل فی الأرض خلیفة ... »(1) ، وتمکنه من حمل الامانة الالهیة ؛ قال تعالی : « إنّا عرضنا الامانة علی السماوات والأرض والجبال فأبین أنْ یحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه کان ظلوما جهولاً »(2) .
والعاملان الاساسیان فی هذه الحرکة : الإرادة والوعی ، وهذان العاملان هما اللذان یؤهلان الانسان لهذه الحرکة التی یتمیز بها دون کثیر من خلق اللّه‏ .
وهذه الحرکة کالحرکة الاُولی تماما یتحول فیها الانسان بصورة مستمرة وتدریجیة من القوة الی الفعل ، وتبرز وتظهر خلال هذه الحرکة المواهب والامکانات التی أودعها اللّه‏ تعالی فی الانسان ، واحدة بعد اُخری .
فقد أودع اللّه‏ تعالی فی الانسان کنوزا من المواهب والکفاءات والطاقات والقیم والوعی والخصال الفاضلة : « ولقد کرّمنا بنی آدم وحملناهم فی البرّ والبحر ... »(3) و « ... فتبارک اللّه‏ أحسن الخالقین »(4) .
وهذه الکنوز من المواهب والقیم لا تبرز مرة واحدة وانما تظهر ضمن حرکة تدریجیة تتحول فیها هذه الکفاءات والمواهب من القوة الی الفعل ، ولا تختلف هذه الحرکة التکاملیة عن تلک فی شیء إلاّ فی ان هذه الحرکة تتم بارادة الانسان ووعیه وتلک الحرکة تتم من دون ارادة ووعی ، وهذه الحرکة تتم فی مساحة القیم الاخلاقیة والوعی والایمان والاخلاص وتلک الحرکة تتم فی مساحة النمو الفسلجی والحیاتی للانسان .
ویتم هذا التکامل عبر طریق طویل شاق وعسیر ، وعبر کفاح طویل للأهواء والغرائز الکامنة فی النفس ، وسوف نتحدث ان شاء اللّه‏ عن میکانیکیة هذه الحرکة .

السقوط الارادی للانسان :

وهذه الحرکة کسابقتها بارادة الانسان غیر أنّها تکون باتجاه السقوط والخسران ؛ یقول تعالی : « والعصر * انّ الانسان لفی خسر »(1) .
وهذا الخسر الذی تشیر الیه سورة العصر هو انتکاسة الانسان وسقوطه الی أسفل سافلین.
وقال تعالی : « والتین والزیتون * وطور سینین * وهذا البلد الأمین * لقد خلقنا الإنسان فی أحسن تقویم * ثُمّ رددناه أسفل سافلین * إلاّ الذین آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غیر ممنون »(2) .
وهذه الحرکة الارادیة تتم باختیار الانسان وارادته کما ذکرنا ، غیر أ نّها باتجاه الاستجابة للغرائز، والسقوط الی اسفل سافلین، والعامل الاساسی فی هذه الحرکة هو الهوی.

میکانیکیة الحرکة التکاملیة فی الانسان :

مهمة هذه الحرکة تحقیق القیم التی أودعها اللّه‏ تعالی فی نفس الانسان ، کالایمان والیقین والاخلاص والخشوع والشکر والرفق والرحمة والعدل والجود والشجاعة والعفّة والغیرة و ... وهذه القیم لها جذور فی عمق النفس ، تبرز وتظهر وتقوی وتتعمق ضمن الحرکة التکاملیة للانسان بصورة تدریجیة .
وتمر هذه الحرکة فی کل قیمة من هذه القیم عبر نقطة سلبیة ، وما لم یتجاوز الانسان تلک النقطة السلبیة لا یمکن ان یکتسب ویحقق تلک القیمة .
وحرکة الانسان وکماله ونموه ونضجه هی معاناته فی تجاوز هذه النقاط السلبیة الکامنة فی نفسه ، وما لم یتجاوز الانسان هذه النقاط السلبیة لا یستطیع ان یحقق النقاط الایجابیة فی حیاته .

دراسة تحلیلیة لآیة من سورة التغابن :

لنضرب لذلک مثلاً من القرآن الکریم ؛ قال تعالی : « ... ومن یوق شُحَّ نفسه فاولئک هم المفلحون »(1) ، هذه الآیة الکریمة تتضمن ثلاث نقاط :
الاولی : أنّ الشح مغروس فی النفس ، والنفس البشریة تنطوی علی هذه الحالة ونقیضها بشکل متکافئ ؛ قال تعالی : « ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها »(2) .
فالفجور والتقوی کلاهما مغروسان فی النفس البشریة ، حاصلان فیها ، والآیة من سورة التغابن واضحة فی هذه الحقیقة ، لا تبقی للانسان شکا وهی قوله تعالی : « شحّ نفسه » .
الثانیة : أنّ حالة الشح حالة کامنة فی نفس الانسان بالقوة ، بمعنی الاستعداد للشح ، کما أودع اللّه‏ تعالی فی نفس الانسان استعدادا للعطاء ، والآیة من سورة التغابن واضحة فی هذا المعنی اذ قال تعالی : « ومن یوق » والوقایة من المرض تختلف عن علاجه ومکافحته ؛ فإن العلاج والمکافحة لمواجهة حالة مرضیة قائمة، وأمّا الوقایة فللمنع ، والحیلولة دون حصولها.
اذن فالتکلیف بالوقایة یتضمن معنیً نفسیا دقیقا وهو أنّ حالاتِ الشح والفجور کامنة فی نفس الانسان بالقوة ولیست حاصلة بالفعل ، فاذا أخذ الانسان بأسباب الوقایة منها قضی علیها واذا لم یأخذ بأسباب الوقایة تبدأ هذه الحالات بالظهور والنمو .
الثالثة : أنّ الانسان لا یستطیع أنْ یحقق ویفعّل فی نفسه القیم والمواهب والفضائل التی أودعها اللّه‏ تعالی فی نفسه ، إلاّ عبر تجاوز هذه النقاط السلبیة ، فلا یستطیع أن یفعّل حالة العطاء إلاّ اذا تغلّب علی حالة الشح فی نفسه ووقی نفسه منها ؛ ولا یستطیع ان یفعّل حالة الکظم فی نفسه إلاّ اذا تغلّب علی حالة الغضب والانفعال ؛ ولا یستطیع ان یفعّل فی نفسه حالة الشجاعة إلاّ اذا تغلّب فی نفسه علی الخوف والجبن ؛ وهکذا لا یتمکن الانسان أن یفعّل فی نفسه ما أودع اللّه‏ تعالی فیه من القیم والمواهب إلاّ بالتّغلّب علی النقاط النقیضة لها والکامنة فی نفسه ، بالوقایة منها .
والآیة المبارکة من سورة التغابن واضحة فی هذه النقطة أیضا ، فإن اللّه‏ تعالی یقول : « ومن یوق شحّ نفسه فاُولئک هم المفلحون » .
فالفلاح لا یتحقق فی حیاة الانسان إلاّ عبر تجاوز ( الشح ) والوقایة منه .

العقبات :

إنّ النقاط السلبیة الکامنة فی نفس الانسان هی العقبات التی تحول بین الانسان وبین العروج الی اللّه‏ واحراز القیم والمواهب الالهیة وتفعیلها فی نفسه . ومن دون أن یقی الانسان نفسه من هذه النقاط التی یعبّر عنها القرآن بـ ( الفجور ) لا یستطیع الانسان ان ینال التقوی . فهی اذن عقبة : « وما ادراک ما العقبة »(1) .
ولکل قیمة وموهبة وفضیلة أودعها اللّه‏ تعالی فی النفس عقبة خاصة بها ؛ وبناءً علی ذلک فالعلم قیمة وعقبته الجهل ، والرأفة والرحمة قیمة وفضیلة وعقبتها الغلظة ، والرقة فضیلة وعقبتها القسوة ، والکظم فضیلة وقیمة وعقبته الغضب والانفعال ، والحلم فضیلة وعقبته الطیش ، والحب قیمة وفضیلة وعقبته النفور والبغضاء ، والعفو قیمة وفضیلة وعقبته حب الانتقام ، والجود والعطاء قیمة وفضیلة وعقبته الشح والبخل ، والتوحید قیمة کبری فی حیاة الانسان وعقبته الشرک ، والیقین قیمة وعقبته الشک ، والتواضع قیمة وعقبته الکبریاء ، والشجاعة قیمة وعقبتها الخوف والجبن ، والایثار قیمة وعقبته الاثرة وحب الذات ، وما لم یتجاوز الانسان هذه العقبات لا یستطیع ان یفعّل ویحقق فی نفسه تلک القیم والمواهب والفضائل .

الابتلاء :

واللّه‏ تعالی یبتلی عباده بهذه العقبات ، ومعاناة الانسان الصعبة لیست فی ممارسته القیم انما هی فی تجاوز العقبات ؛ فلیست معاناة الانسان فی العطاء والجود بقدر ما هی الوقایة فی الشح والبخل ، ولیست معاناة الانسان فی العفو بقدر ما هی فی الوقایة من حب الانتقام ؛ فإذا تحرر الانسان من الشح وحب الانتقام والطیش والجهل والشک والغضب ... فقد تمکن من العطاء والعفو والحلم والعلم والایمان والکظم .
إنّ الإنسان بفطرته ینزع الی العروج الی اللّه‏ ، وتحقیق القیم والمواهب والفضائل التی أودعها اللّه‏ تعالی فی نفسه ، ولکن هذه العقبات تحجزه وتعیقه ، کما یمیل المنطاد الی الصعود فی الجو لولا الحبال التی تشده الی الأرض ؛ فهذه العقبات حبال تشد الانسان الی الاسفل وتعیقه عن العروج الی اللّه‏ تعالی ، وما لم یتحرر منها لا یتمکن من رحلة الایمان والقیم .
وابتلاء الانسان الصعب فی هذه الحیاة الدنیا فی التحرر من العقبات ، وعناء الانسان وکدحه فی هذه الرحلة لیس فی الحرکة الی اللّه‏ تعالی بقدر ما هو فی التحرر من العقبات .
والقرآن یشیر الی هذا الکدح والعناء فی حیاة الانسان إشارات واضحة قال تعالی : « یا أیّها الانسان إنّک کادح الی ربّک کدحا فملاقیه »(1) وقال تعالی : « لقد خلقنا الانسان فی کبد »(1) ، والکبد : الجهد والعناء والکدح .

الوعی والارادة :

واداة الانسان فی التحرر من هذه العقبات هی ( الوعی ) و( الارادة ) .
و( الوعی ) هو البصیرة والمعرفة التی تمکّنه من تشخیص العقبات ودورها فی سقوط الانسان وهلاکه .
و( الارادة ) تمکنه من تجاوز هذه العقبات ، ولا یغنی أحدهما عن الآخر .
ولیس للحیوان معاناة کمعاناة الانسان ، وذلک لان الحیوان لا وعی ولا بصیرة ولا ارادة له لیمیز بین العقبة والغایة ، ویمیز بین السقوط والعروج ، فهو یجری تبعا للغریزة .

حالات العروج والسقوط :

وعروج الانسان فی الابتلاء بالعقبات والتحرر منها ، وسقوطه فی الاستسلام لها . والانسان فی هذا الابتلاء یصعد تارة وینزل اُخری ، ویتحرر مرة من عقبات الهوی فیعرج الی اللّه‏ ویستسلم للعقبات مرة اُخری فینزل باتجاه السقوط .
ولکن کلما ازداد حظه فی التحرر من هذه العقبات ، وتکرر فی حیاته الانفلات من عقبات الهوی ازدادت سیطرته علی اهوائه وشهواته وتمکن منها ؛ وانقادت له غرائزه وشهواته ، وتوسعت دائرة ( العصمة ) و( الحصانة ) فی حیاته من الذنوب ، وازداد شوقا وحبا الی اللّه‏ واُنسا به ونزوعا للاستجابة لهتافه ودعوته تعالی .
وعلی العکس کلما تکررت فی حیاة الانسان حالات الاستجابة لعقبات الهوی والنزول والاسفاف ازدادت سیطرة الهوی والشهوات علیه ، وتمکنت منه اهواؤه أکثر فأکثر ، وضعفت فی نفسه جاذبیة الشوق الی اللّه‏ والاُنس به وذکره ، وجاذبیة القیم والمواهب المودعة فی نفسه بالفطرة .
وبتعبیر آخر : أنّ الاستجابة المتکررة لعقبات الهوی ، تمکن الانسان من الاسفاف ، وتسلب حریة الانسان ، وتجعله فی قبضة الهوی وأسره . وعلی العکس کلما تکرر فی حیاة الانسان الانفلات من قبضة الهوی تأکدت قدرة الانسان علی التحرر من اهوائه وشهواته وتأکدت سیطرته علی نفسه وازداد ذکرا للّه‏ وحبا له وشوقا الیه .
وهذه معادلة ثابتة فی نصوص الکتاب والسنة ، وفی ما نختبره ونعرفه من انفسنا .
والتحرّر من الهوی فی هذه المعادلة یساوی العبودیة للّه‏ ، والوقوع فی أسر الهوی یساوی الخروج من دائرة عبودیة اللّه‏ والدخول فی دائرة عبودیة الشیطان .

الخسران والفلاح :

والحالة الاولی خسران ، لان فی کل استجابة للهوی خسرانا فی حیاة الانسان ، یخسر فیها الاستجابة لدعوة اللّه‏ تعالی . فإذا تکررت منه الاستجابة للعقبات والاهواء خسر القیم التی تقابلها هذه العقبات نهائیا ، وجفّ معین الفطرة فی نفسه ، وفقد المواهب والقیم التی اودعها اللّه‏ تعالی فی نفسه ، وهذه الحالة هی حالة الانغلاق الکامل للقلوب ، وحالة الختم ؛ قال تعالی : « ختم اللّه‏ علی قلوبهم ... »(1) ، وفی هذه الحالة لا تستقبل القلوب من رحمة اللّه‏ تعالی شیئا ، وتنغلق عن کل خیر ورحمة انغلاقا مطلقا . ومن ثمّ لا تعطی ولا تنفق شیئا ؛ ومن لا یأخذ لا یعطی .
وعندئذٍ یخسر الانسان کلّ ما أودع اللّه‏ تعالی فی نفسه من المواهب والقیم ، ویخسر کلّ ما ینزل اللّه‏ علی قلوب عباده من النور والرحمة ، وهذا هو الخسران الأکبر فی حیاة الانسان.
وفی مقابل هذا الخسران ( الفلاح ) فاذا تمکن الانسان من ان یتجاوز عقبات الهوی وینتصر علیها فإنه سوف یفلح فی تحقیق وتفعیل کل ما أودع اللّه‏ تعالی فی نفسه من کنوز الفطرة ، ویفلح فی الانفتاح علی رحمة اللّه‏ تعالی .
واذا فتح الانسان منافذ قلبه علی رحمة اللّه‏ تعالی استقبل من الرحمة الالهیة ما یتسع له قلبه . وهذه الحالة هی حالة الکمال والنضج والانفتاح فی نفس الانسان .

القرب الی اللّه‏ والبعد عنه :

وبین حالتی الصعود والسقوط تتفاوت درجات قرب العبد وبعده عن اللّه‏ تعالی ؛ فإن الانسان اذا تمکن من تذلیل عقبات الهوی فی طریقه الی اللّه‏ ، وتحرر من سلطان الهوی تمکن من تفعیل وتحقیق کنوز القیم فی نفسه . وهذه القیم هی بعض صفات جمال اللّه‏ تعالی .
فیحمل الانسان عندئذٍ من صفات جمال اللّه‏ ما یتسع له وعاء قلبه من الرحمة والعلم والکرم والحلم والعفو ، إلاّ ما یختص اللّه‏ تعالی به من صفات الجمال ، فتکون صفات العبد من سنخ صفات اللّه‏ مع فارق المحدود واللامحدود ، فإن هذه الصفات فی العبد محدودة وفی اللّه‏ تعالی مطلقة لا حد لها ، إلاّ أنّ هذه السنخیة فی الصفات کیفما تکون تقرب العبد الی اللّه‏ ، وکلما تکون صفات العبد أشبه بصفات اللّه‏ تعالی یکون العبد أقرب الی اللّه‏ تعالی .
وهذه من القضایا التی قیاساتها معها ، فالعالم أقرب الی العالم من الجاهل ، والحلیم أقرب الی الحلیم من الطائش ، والکریم اقرب الی الکریم من البخیل ، والشریف أقرب الی الشریف من الساقط ، والأمین أقرب الی الامین من الخائن .
وعلیه فکلما کانت صفات الانسان أشبه بصفات جمال اللّه‏ تعالی وأقرب الی صفات اللّه‏ تعالی کان صاحبها اقرب الی اللّه‏ ، وعلی العکس کلما یسقط الانسان فی الاستجابة للهوی کان أبعد عن اللّه‏ تعالی ، لاّن السقوط فی الاهواء یفقد الانسان هذه القیم ، وکلّما خسر الانسان قیمة من هذه القیم ابتعد بمقدارها عن اللّه‏ .
واذا أکسب الهوی الانسان أضداد هذه القیم کالجهل والشح والغلظة والقسوة والکذب والغضب والخیانة تحوّل الی عدو للّه‏ تعالی ، وکأنه أبعد شیء عن اللّه‏ تعالی .
وهذه القضیة کسابقتها قیاساتها معها ؛ فالخائن بعید عن الامین ، والکاذب بعید عن الصادق ، والجاهل بعید عن العالم ، والساقط بعید عن الشریف .

الاقبال والاعراض :

والحالة الاُولی ( القرب بالصفات ) تجذب الانسان الی اللّه‏ تعالی جذبا قویا ، وکلّما تکون صفات الانسان أشبه بصفات اللّه‏ وجماله یخضع قلب الانسان للجاذبیة الالهیة اقوی وأکثر .
وتتبلور هذه الجاذبیة فی نفس العبد بصورة الحب الالهی والشوق الی اللّه‏ والاُنس باللّه‏ ، وذکر اللّه‏ والإقبال علیه .
وعلی العکس کلّما یکون العبد أبعد شبها عن اللّه‏ فی الصفات یکون ابعد عن قبول الجاذبیة الالهیة ؛ فلا یجذبه جمال اللّه‏ تعالی وجلاله ، ولا یدخل فی قلبه حب اللّه‏ تعالی والشوق الیه والانس به وذکره إلاّ بمقدار ما یحمل من صفات اللّه‏ ، فإذا اکسبه الهوی اخلاق اعداء اللّه‏ وجد الانسان فی نفسه إعراضا وصدودا عن اللّه‏ .
والاعراض والصدود عن اللّه‏ لهما علاقة مباشرة بما یکتسبه الانسان من اخلاق اعداء اللّه‏ .
کما ان الاقبال والذکر والحب لها علاقة مباشرة بما یکتسبه الانسان من صفات الجمال الالهیة .
کما ان حالتی البعد والاعراض عن اللّه‏ تحجبان الانسان عن اللّه‏ ، فلا یدخل فی قلبه اذا حجبته الأهواء نور أو هدی أو رحمة من اللّه‏ ، کذلک حالتا القرب والاقبال تکسبان الانسان انفتاحا علی اللّه‏ وتفتحان قلب الانسان علی رحمته ونوره ، واذا وفق اللّه‏ عبدا وفتح قلبه علی رحمته ، فقد آتاه الحکمة والهدی والبصیرة والیقین بدون حساب .

الهوامش:

(1) الواقعة : 10 ـ 12، 88 و 89 .
(1) الحدید : 4 .
(2) ق : 16 .
(3) الانفال : 24 .
(1) الذاریات : 56 .
(2) لقمان : 13 .
(1) البقرة : 152 .
(2) المائدة : 175 .
(1) البقرة : 199 .
(2) البقرة : 150 .
(3) الاحزاب : 1 .
(1) البقرة : 30 .
(2) الاحزاب : 72 .
(3) الاسراء : 70 .
(4) المؤمنون : 14 .
(1) العصر : 1 ، 2 .
(2) التین : 1 ـ 6 .
(1) التغابن : 16 .
(2) الشمس : 6 ، 7 .
(1) البلد : 12 .
(1) الانشقاق : 6 .
(1) البلد : 4 .
(1) البقرة : 7 .

مقالات مشابه

نقش اخلاق اسلامی در رساندن انسان به کمال

نام نشریهاخلاق وحیانی

نام نویسندهاسماعیل خارستانی, فاطمه سیفی, کاظم منافی شرف آباد

روان شناسی کمال در قرآن

نام نشریهمطالعات اسلام و روان شناسی

نام نویسندهاحمد علی‌پور, ابراهیم نیک صفت

توسعه عزت مندانه

نام نشریهخردنامه همشهری

نام نویسندهمحمدصادق یوسفی مقدم

کمال یابی انسان در قرآن

نام نشریهقرآنی کوثر

نام نویسندهمحسن صمدانیان, مریم مسیبی

راه دستیابی به کمال نسبی در قرآن

نام نشریهالهیات و حقوق

نام نویسندهرضا وطن‌دوست

عوامل و موانع تقرب به خدا

نام نشریهکیهان

نام نویسندهعلی پوریا